قصة قصيرة
قبل عامين عصفت بحياتي الأدبية طامة، فصار الزمن يجرّني معه وأنا في مكاني مذهول، تماما كما يحدث لآمن في مدينة يستهدفها الغزاة في ليلة هادئة.
كنت بانتظار صديقي مسعود طرباوي، فيما قدام عيني شاشة مرسومة، أحرك مؤشر السهم وأنقر الخيارات بـ “ضميري” كلما انطفأت الشاشة. كان كل شيء يشي بأننا محميون من التقلبات العالمية، لقد تصدّر صفوة العالم منصات الإعلام منذ عقود، مؤكدين أننا معشر البشر سنكون مصانين من زلزال التكنولوجيا القادم. لأن على الجميع الحفاظ على “التجربة الإنسانية” وصيانتها من الانقراض. لكن وكما حلّ علينا فايروس كورونا قبل بضعة عقود، فقد جرى ما جرى ونحن عنه في غفلة.
تلقّيتُ اتصالا “في عقلي” من طرباوي، فغمزتُ بعيني اليسرى ليتكشف لي وجهه وهو في سيارته. الوجه مثل العجينة من تكدّس الدهون. افترت شفتاه عن ابتسامة وهو يرفع عبوة البيبسي ويعبّها دفعة واحدة. تجشأ ثم أمرني بالنزول.
خرجتُ من بوابة العمارة، الشارع هو هو، والسماء هي هي، والطقس بخاري رطب مقزز. تسائلت كيف يقرر عصبة من الناس أمرا، يغيرون به ناموس الأرض، دون رضا الأغلبية الصامتة!! ومالي أظنهم رافضين أصلا، فقد قال الصفوة التقنيون إن استقراء أجهزتهم لنقرات الناس، أظهر قبول الناس بالتقدم التكنولوجي غير المحدود.. ولماذا أنقد الناس وقد رأيتُ بأم عيني حشدا منهم يصفقون محتفلين بأن الشركة نجحت في جعل التكنولوجيا تؤدي أدوارهم الوظيفة، قلت يومها لطرباوي:
-إلا الأدب..
فقال بثقة العلماء:
-وهل ستفهم أكثر من الكمبيوتر؟
كنتُ كلما عرضت رأيي في مسألة أدبية تبدر منه سخرية مستفزة، فكل آرائي مسفّهة ، لأن الكمبيوتر يعرف أكثر مني.. وهو يبني نتائجه على الأرقام، لا على العواطف التي لا تعدم الانحياز. وأول ما ركبت سيارته، قال لي:
– ها.. هل كتبت القصة؟
هززت رأسي بالنفي.
-ولماذا هاتفتني؟ أم أنها حبسة الكاتب؟
وانفلتت من حلقه قهقهة تضجّ بالسخرية من سالفة حبسة الكاتب التي صارت من الماضي الجميل.
***
كلّم طرباوي جهاز الاستقبال في السيارة لأخذنا إلى المقهى الثقافي.. مقهاه هو.. منذ عامين، ارتبك سوق الأدب في العالم كله، وفي لجج الارتباك، غرق الكلاسيكيون في هذا السوق، واختفوا تماما، كما يختفي حيوان منقرض. في المقابل، انقض على السوق خبراء التقنية. فأنتجوا مستعينين بالذكاء الصناعي آلاف الأعمال الأدبية، كانوا يوظفون محرري الأدب الذين مات سوقهم، والكتاب الذين رفعوا الراية البيضاء، فيتولى هؤلاء كتابة خطط النشر الخاصة بفروع الأدب في برامج الذكاء الصناعي، وما هي إلا ثوان معدودات حتى يتمخض عن الجهاز عمل أدبي متكامل يهتدي بأسلوب أحد عباقرة الأدب القدماء. يُختار لعمل ما مثلا نجيب محفوظ، أو همنغواي، أو بالدوين، أو كويتزي فيخرج العمل بأسلوبهم.. بأسلوبهم وأفكارهم السياسية والفلسفية وانتقائهم للكلمات وصفّهم للعبارات. وكان لهذا أثر السحر على الجمهور، فصار القراء يحرصون على شراء إصدارات الدور الجديدة قائلين لبعضهم: ألم تقرأ رواية نجيب الجديدة.. وإن كان بعض الناس قد تنزّهوا في البداية عن الإقبال على مثل هذه الأعمال، التي عدّوها مصطنعة غير إنسانية، فإنهم ما إن اطلعوا عليها، وانغمسوا فيها، وذاقوا لذة قراءتها حتى ذهلوا عن أنفسهم، واعترتهم الدهشة وكأنما هم بالفعل يقرأون عملا جديدا لكاتبهم المحبوب، وهذا يشبه من ترفّعوا عن ChatGPT أول ظهوره، ثم صاروا يبثون إليه هموهم وأحزانهم وأسرارهم.
وكانت عاقبة هذا الإقبال وخيمة على كتاب الحاضر. فانصرف الناس عمن لا يقاربون الكتاب المستنسخين في الصنعة والإبداع. وكان ممن هُجروا جيل واي وزيد من الكتاب، مثل معتز البدر وغيره ممن شاخوا وأضامتهم التطورات في نهاية حياتهم الأدبية.
وهكذا كان عليّ أنا البادئ في مشوار الأدب، صاحب بيضة الديك “الكتاب الواحد”، أن أواجه مصيري المحتوم فاقدا الأمل في النجاح الأدبي، أقتات على أقراص الاكتئاب وقد بدت الأرض مكانا لا يحتاجني. دهستني الأيام حتى انتشلني طرباوي، ذو الألغاد الضخمة -عليه من الله ما يستحق-. قال لي، حفاظا على الحياة الفطرية، ومنعا لتغول التكنولوجيا -وكأنها لم تفعل بعد!- اتفقت الجمعيات الأدبية على إنشاء مبادرة مهمة، وهي أن يُمنح الكاتب الإنسان فرصة الكتابة حماية له من فقدان المعنى. المطلوب منه أن يتلقى مخطط القصة من مستشاري الأدب، ويكتبها ثم تنشر وتوضع في صف المكتبات معنونة بـ (كتابات بشرية). مع الوعي التام بأنها لن تحقق مردودا ماليا. كان مخطط القصة مطبوعا في مخي، يظهر في أوقات محددة، وفقا لرسائل التذكير التي حددها طرباوي، على رغم أني لست ممن يلتزمون بالمخططات قبل الكتابة، ولا أؤمن بها، فأنا ممن يسمونهم أيام زمان ” Pantsers” وكان هذا وحده كافيا ليصد نفسي عن الكتابة ناهيك عن أن قصتي ستنشر ضمن مجموعة تحوي قصصا أخرى لكتاب بائسين مثلي ، من باب التوفير.
وصلت السيارة بنا إلى مقهى تيك بوك. وسرعان ما لحظت بعيني حشدا من الجميلات في فساتين ملونة، تصطبغ وجوههن بالمساحيق وتتهدل شعورهن المسرحة بمجفف الشعر على كتوفهنّ. كنّ في غاية الجمال، ذاك النوع من الجمال المستفز، كسيارات فارهة يلاحقها نظري وييأس من نيلها جيبي.
نزلنا أمام الباب في حين أكملت السيارة طريقها آليا إلى المواقف الخلفية للمقهى.سألتُ طرباوي ما هذا الزحام! فأومأ بكفه قائلا:
-تعال وأنت ساكت..
هفت على أنفي روائح العود والمسك والعطور الأنثوية المربكة. وانصبت علينا الأضواء الصفراء الفاقعة عند المدخل، ولاحت صفوف الكراسي الممتلئة بالجالسين. والتي رُصت بشكل متناسق باتجاه طاولة تشرف عليها من الخلف لوحة إعلانية إلكترونية للندوة الأدبية. كتب عليها:
(نجيب محفوظ.. الكتابة ما بعد الموت).
وكنتُ أرى من موقفي رجلا هزيلا جالسا خلف الطاولة، كان يبرز لبصري بين فينة وأخرى، كلما انحسرت عنه أجساد المنكبّين عليه، وقد خمنت أنهم يطلبون توقيعه. اعترتني نسمة أمل، هل عاد الناس للإقبال على الأدباء البشريين! وظللت أمدّ خطاي في حماسة وقلبي يدقّ بقوة، حتى بلغت الصف الأول فصار الجالس باديا لي نصفه الأيسر. ولم يزل الملتفون يخاطبونه ويلتقطون له الصور بعيونهم الفلاشية. ارتجف صدري ما إن رأيته. إنه هو.. نجيب محفوظ.. ببساطته ونظراته الوادعة، وابتسامته المشرقة الطيبة، بظهره ذي الأتب، الذي أحنته قعدات الكتابة الطويلة.. جفّ ريقي وأنا أتطلع ببصري باحثا عن طرباوي ولكنه كان الآن واقفا بمحاذاة نجيب، يتكئ عليه بود، كأنه صديق عزيز. وكان نجيب بين آن وآخر يرفع رأسه إليه باسما. فيكاد عقلي يطير من هول المنظر. إنها نفس اللفتات، ونفس الإيماءات، وها هو طرباوي يشير إلى الملتمين ويصفق مؤذنا ببدء الندوة. فيما الجمهور يلتقط آخر صور السيلفي ويطمعون في لمس أديب نوبل، كما يلمس الهندوسي قديسه.
انطلقت الندوة بإدارة طرباوي، فرحّب أولا بـ “عمّنا” نجيب، فضحك الجمهور وضحك نجيب. وجرى ما جرى في الندوة من حديثه عن آخر أعماله “سميراميس”. ونصائحه للقراء في حكمهم ونقدهم للعمل الأدبي. ولفتني أنه لم يذكر الأدباء الشباب في حديثه على رغم أنه كان دائما ما يسدي إليهم النصح. وعندما سألته إحدى الجميلات عن طقوسه الكتابية، لم يقل إنه يكتب كل يوم كما أعرف من لقاءاته القديمة، بل قال إنه يكتب الرواية في ثوان، وقهقه من الأعماق فتشابكت الضحكات في سقوف المقهى. انتهت الندوة ولم أجرؤ على الاقتراب منه، ومضيت ألاحقه من بعيد خلف الجمع الذي يحف به حتى بوابة المقهى، ثم رأيته يهمّ بركوب سيارة فارهة في المقعد الخلفي.. وبينما كان ينحني لمحت على قفاه ما يشبه الثقب الذي على الدمى الإلكترونية. ولقد عرفتُ لاحقا أنه راح ليتلقى جائزة ثقافية في محفل ألعاب إلكترونية.
***
في السيارة قال لي طرباوي بسعادة:
-أخيرا صار بإمكان الجمهور الالتقاء بالكتاب الأموات..
-ومن من الكتاب استنسختم غير محفوظ؟
-الباقون آتون في الطريق.. طلبنا صنع منيف.. نتحقق فقط من أن المقاسات مضبوطة..
ومضت بنا السيارة في الشوارع الكبرى، فران الصمت ونفد في جعبتي الكلام.
جثم على صدري جاثوم الاكتئاب، وكنت قد سرحت من وظيفتي قبل عامين، كما سرح الملايين واتفقت الحكومات على أن تخصص مبالغ شهرية لدعم المطرودين من وظائفهم، حفاظا على السلم الاجتماعي.
عندما يتحول حلم التفرغ للكتابة إلى حقيقة، لا أكتب، أو أكتب ما يملى عليّ، فلا فرق بين حالي الآن وحالي وأنا موظف. قلت لطرباوي وأنا أهبط من السيارة:
-قل لمحفوظ.. أتنافسنا حيا وميتا!
فضحك ضحكة متسكعة جافة، سرعان ما انفثأت في الهواء. فتخيلت مشواري في الكتابة، بدأت الكتابة عندي مثل هذه الضحكة، واثقة، حية، متسكعة، ثم انتهت إلى الفراغ والعدم. وتذكرت “فرانكل” الذي كان الناس يتباهون بقراءة كتابة “الإنسان والبحث عن المعنى”، فوددت لو أنني عشت في عصره، حيث كنت على الأقل سأستحق الحياة، وأستحق فرصة المحاولة، ويكون في رأيي وكتابتي صدى لعاطفتي الحقيقية، فلا تهزأ برأيي الأرقام ولا يطفئها برد الحقائق. أن أستحق الثرثرة، والكتابة، والحلم، ذلكم كل ما أريده يا صاحب الألغاد الضخمة.